ذكر التنبول
والتنبول شجر يغرس كما تغرس دوالي العنب، ويصنع له معرشات من القصب، كما تصنع لدوالي العنب، أو يغرس في مجاورة النارجيل، فيصعد فيها كما تصعد الدوالي، وكما يصعد الفلفل. ولا ثمر للتنبول. وإنما المقصود منه ورقه، وهو يشبه ورق العليق. وأطيبه الأصفر. وتجنى أوراقه في كل يوم. وأهل الهند يعظمون التنبول تعظيماً شديداً، وإذا أتى الرجل دار صاحبه فأعطاه خمس ورقات منه، فكأنما أعطاه الدنيا وما فيها، لا سيما إن كان أميراً أو كبيراً. وإعطاؤه عندهم أعظم شأناً وأدل على الكرامة من إعطاء الفضة والذهب. وكيفية استعماله أن يؤخذ قبله الفوفل، وهو شبه جوز الطيب، فيكسر حتى يصير أطرافاً صغاراً، ويجعله الإنسان في فمه ويعلكه، ثم يأخذ ورق التنبول، فيجعل عليها شيئاً من النورة ويمضغها مع الفوفل. وخاصيته أنه طيب النكهة، ويذهب بروائح الفم، ويهضم الطعام، ويقطع ضرر شرب الماء على الريق، ويفرح آكله، ويعين على الجماع. ويجعله الإنسان عند رأسه ليلاً فإذا استيقظ من نومه، أو أيقظته زوجته أو جاريته أخذ منه، فيذهب بما في فمه من رائحة كريه. ولقد ذكر لي أن جواري السلطان والأمراء ببلاد الهند لا يأكلن غيره، وسنذكره عند ذكر بلاد الهند.
ذكر النارجيل
وهو جوز الهند، وهذا الشجر من أغرب الأشجار شأناً وأعجبها أمراً، وشجره شبه شجر النخل لا فرق بيهما، إلا أن هذه تثمر جوزاً، وتلك تثمر ثمراً. وجوزها يشبه رأس ابن آدم، لأن فيها شبه العينين والفم، وداخلها شبه الدماغ إذا كانت خضراء، وعليها ليف شبه الشعر، وهم يصنعون به حبالاً يخيطون به المراكب عوضاً عن مسامير الحديد، ويصنعون منه الحبال للمراكب. والجوزة منها وخصوصاً التي بجزائر ذيبة المهل، تكون بمقدار رأس الآدمي. ويزعمون أن حكيماً من حكماء الهند في غابر الزمان كان متصلاً بملك من الملوك ومعظماً لديه، وكان للملك وزير بينه وبين هذا الحكيم معاداة. فقال الحكيم للملك: إن رأس هذا الوزير إذا قطع ودفن تخرج منه نخلة تثمر بثمر عظيم، يعود نفعه على أهل الهند وسواهم من أهل الدنيا. فقال له الملك: فإن لم يظهر من رأس الوزير ما ذكرته، قال: إن لم يظهر، فاصنع برأسي كما صنعت برأسه. فأمر الملك برأس الوزير فقطع، وأخذه الحكيم، وغرس نواة تمر في دماغه، وعالجها حتى صارت شجرة، وأثمرت بهذا الجوز. وهذه الحكاية من الأكاذيب، ولكن ذكرناها لشهرتها عندهم. ومن خواص هذا الجوز تقوية البدن وإسراع السمن والزيادة في حمرة الوجه. وأما الإعانة على الباءة ففعله فيها عجيب. ومن عجائبه إنه يكون في ابتداء أمره أخضر. فمن قطع بالسكين قطعة من قشره وفتح رأس الجوزة شرب منها ماء في النهاية من الحلاوة والبرودة. ومزاجه حار معين على الباءة. فاذا شرب ذلك الماء أخذ قطعة القشرة وجعلها شبه الملعقة وجرد بها ما في داخل الجوزة من الطعم، فيكون طعمه كطعم البيضة إذا شربت ولم يتم نضجها كل التمام، ويتغذى به. ومنه كان غذائي أيام إقامتي بجزائر ذيبة المهل مدة عام ونصف عام. وعجائبه أن يصنع منه الزيت والحليب والعسل.فأما كيفية صناعة العسل منه فإن خدام النخل منه، ويسمون الفازانية، يصعدون إلى النخلة غدواً وعشياً إذا أرادوا أخذ مائها الذي يصنعون منه العسل، وهم يسمونه الأطواق، فيقطعون العذق الذي يخرج منه الثمر، ويتركون منه مقدار إصبعين، ويربطون عليه قدراً صغيرة فيقطر فيها الماء الذي يسيل من العذق. فإذا ربطها غدوة، صعد إليها عشياً ومعه قدحان من قشر الجوز المذكور، أحدهما مملوء ماء فيصب ما اجتمع من ماء العذق في أحد القدحين ويغسله بالماء الذي في القدح الآخر، وينجر من العذق قليلاً ويربط عليه القدر ثانية، ثم يفعل غدوة كفعله عشياً، فإذا اجتمع له الكثير من ذلك الماء طبخه كما يطبخ ماء العنب إذا صنع منه الرب، فيصير عسلاً عظيم النفع طيباً، يشتريه تجار الهند واليمن والصين، ويحملونه إلى بلادهم، ويصنعون منه الحلواء. وأما كيفية صنع الحليب منه فإن بكل دار شبه الكرسي، تجلس فوقه المرأة، ويكون بيدها عصا، في أحد طرفيها حديدة مشرفة، فيفتحون في الجوزة مقدار ما تدخل تلك الحديد، ويجرشون ما في باطن الجوزة، وكل ما ينزل منها يجتمع في صحفة، حتى لا يبقى في داخل الجوزة شيء، ثم يمرس ذلك الجريش بالماء، فيصير كلون الحليب بياضاً، ويكون طعمه كطعم الحليب، ويأتدم به الناس. وأما كيفية صنع الزيت فإنهم يأخذون الجوز بعد نضجه وسقوطه عن شجره، فيزيلون قشره ويقطعونه قطعاً ويجعل في الشمس، فإذا ذبل طبخوه في القدور واستخرجوا زيته، وبه يستصبحون. ويضعه الناس في شعورهم، وهو عظيم النفع.
ذكر سلطان ظفار
وهو السلطان الملك المغيث بن الملك الفائز ابن عم ملك اليمن. وكان أبوه أميراً على ظفار من قبل صاحب اليمن. وله عليه هدية يبعثها له في كل سنة. ثم استبد الملك المغيث بملكها، وامتنع من إرسال الهدية. وكان من عزم ملك اليمن على محاربته، وتعيين ابن عمه ووقوع الحائط عليه ما ذكرناه آنفاً. وللسلطان قصر بداخل المدينة يسمى الحصن، عظيم فسيح، والجامع بإزائه. ومن عادته أن تضرب الطبول والبوقات والأنفار والصرنايات على بابه كل يوم بعد صلاة العصر؛ وفي كل يوم إثنين وخميس تأتي العساكر إلى بابه فيقفون خارج المشور ساعة وينصرفون، والسلطان لا يخرج ولا يراه أحد إلا في يوم الجمعة، فيخرج للصلاة ثم يعود إلى داره. ولا يمنع أحد من دخول المشور، وأمير جندار قاعد على بابه، وإليه ينتهي كل صاحب حاجة أو شكاية، وهو يطالع السلطان، ويأتيه الجواب للحين. وإذا أراد السلطان الركوب خرجت مراكبه من القصر وسلاحه ومماليكه إلى خارج المدينة، وأتى بجمل عليه محمل مستور بستر أبيض منقوش بالذهب، فيركب السلطان ونديمه في المحمل بحيث لا يرى. وإذا خرج إلى بستانه وأحب ركوب الفرس ركبه ونزل عن الجمل. وعادته أن لا يعارضه أحد في طريقه ولا يقف لرؤيته ولا لشكاية ولا لغيرها، ومن تعرض لذلك ضرب أشد الضرب. فتجد الناس إذا سمعوا بخروج السلطان فروا عن الطريق وتحاموها. ووزير هذا السلطان الفقيه محمد العدني، وكان معلم صبيان، فعلم هذا السلطان القراءة والكتابة، وعاهده على أن يستوزره إن ملك. فلما ملك استوزره، فلم يكن يحسنها، فكان الاسم له والحكم لغيره. ومن هذه المدينة ركبنا البحر نريد عمان في مركب صغير لرجل يعرف بعلي بن إدريس المصيري من أهل جزيرة مصيرة. وفي الثاني لركوبنا نزلنا بمرسى حاسك وبه ناس من العرب، صيادون للسمك، ساكنون هنالك، وعندهم شجر الكندر، وهو رقيق الورق. وإذا شرطت الورقة منه قطر منها ماء شبه اللبن، ثم عاد صمغاً. وذلك الصمغ هو اللبان وهو كثير جداً هنالك. ولا معيشة لأهل ذلك المرسى إلا من صيد السمك، وسمكهم يعرف باللخم " بخاء معجم مفتوح "، وهو شبيه كلب البحر. يشرح ويقدد ويقتات به. وبيوتهم من عظام السمك، وسقفها من جلود الجمال. وسرنا من مرسى حاسك أربعة أيام ووصلنا إلى جبل لمعان " بضم اللام "، وهو في وسط البحر، وبأعلاه رابطة مبنية بالحجارة وسقفها من عظام السمك، وبخارجها غدير ماء يجتمع من المطر.
ذكر ولي لقيناه بهذا الجبل
ولما أرسينا تحت هذا الجبل صعدناه إلى هذه الرابطة، فوجدنا بها شيخاً نائماً، فسلمنا عليه فاستيقظ، وأشار برد السلام فكلمناه فلم يكلمنا، وكان يحرك رأسه. فأتاه أهل المركب بطعام، فأبى أن يقبله. فطلبنا منه الدعاء فكان يحرك شفتيه ولا نعلم ما يقول، وعليه مرقعة وقلنسوة لبد، وليس معه ركوة ولا إبريق ولا عكاز ولا نعل. وقال أهل المركب: إنهم ما رأوه قط بهذا الجبل. وأقمنا تلك الليلة بساحل الجبل، وصلينا معه العصر والمغرب، وجئناه بطعام فرده، وأقام يصلي إلى العشاء الآخرة. ثم أذن وصلينا معه. وكان حسن الصوت بالقراءة مجيداً لها، ولما فرغ من صلاة العشاء الآخرة أومأ إلينا بالانصراف، فودعناه وانصرفنا ونحن نعجب من أمره. ثم إني أردت الرجوع إليه لما انصرفنا، فلما دنوت منه غلب علي الخوف، ورجعت إلى أصحابي وانصرفت معهم، وركبنا البحر، ووصلنا بعد يومين إلى جزيرة الطير، وليست بها عمارة. فأرسينا وصعدنا إليها، فوجدناها ملآنة بطيور تشبه الشقاشق، إلا أنها أعظم منها. وجاءت الناس ببيض تلك الطيور فطبخوها وأكلوها، واصطادوا جملة من تلك الطيور فطبخوها دون ذكاة وأكلوها. وكان يجالسني تاجر من أهل جزيرة مصيرة ساكن بظفار اسمه مسلم، ورأيته يأكل معهم تلك الطيور، فأنكرت ذلك عليه، فاشتد خجله وقال لي: ظننت أنهم ذبحوها. وانقطع عني بعد ذلك من الخجل، فكان لا يقربني حتى أدعو به. وكان طعامي في تلك الأيام بذلك المركب التمر والسمك. وكانوا يصطادون بالغدو والعشي سمكاً يسمى بالفارسية شير ماهي، ومعناه أسد السمك، لأن شير هو الأسد، وماهي السمك. وهو يشبه الحوت المسمى عندنا بتارزت، وهم يقطعونه قطعاً ويشوونه ويعطون كل من في المركب قطعة، لا يفضلون أحداً على أحد ولا صاحب المركب ولا سواه، ويأكلونه بالتمر. وكان عندي خبز وكعك استصحبتهما من ظفار، فلما نفدا، كنت أقتات من ذلك السمك في جملتهم. وعيدنا عيد الأضحى على ظهر البحر، وهبت علينا في يومه ريح عاصف بعد طلوع الفجر، ودامت إلى طلوع الشمس، وكادت تغرقنا.
كرامة: وكان معنا في المركب حاج من أهل الهند يسمى بخضر، ويدعى بمولانا، لأنه يحفظ القرآن ويحسن الكتابة، فلما رأى هول البحر لف رأسه بعباءة كانت له وتناوم، فلما فرج الله ما نزل بنا قلت له: يا مولانا خضر كيف رأيت ? قال: كنت عند الهول أفتح عيني أنظر، هل أرى الملائكة الذين يقبضون الأرواح جاءوا، فلا أراهم، فأقول الحمد لله لو كان الغرق لأتوا لقبض الأرواح. ثم أغلق عيني ثم أفتحهما، فأنظر كذلك، إلى أن فرج الله عنا. وكان قد تقدمنا مركب لبعض التجار فغرق، ولم ينج منه إلا رجل واحد خرج عوماً بعد جهد شديد. وأكلت في ذلك المركب نوعاً من الطعام لم أذقه قبل ولا بعد، صنعه بعض تجار عمان وهو من الذرة طبخها من غير طحن، وصب عليه السيلان، وهو عسل التمر، وأكلناه. ثم وصلنا إلى جزيرة مصيرة التي منها صاحب المركب الذي كنا فيه، وهي على لفظ مصير وزيادة تاء التأنيث، جزيرة كبيرة، لا عيش لأهلها إلا من السمك. ولم ننزل إليها لبعد مرساها عن الساحل. وكنت قد كرهتهم لما رأيتهم يأكلون الطير من غير ذكاة. وأقمنا بها يوماً، وتوجه صاحب المركب إلى داره وعاد إلينا، ثم سرنا يوماً وليلة، ووصلنا إلى مرسى قرية كبيرة على ساحل البحر تعرف بصور، ورأينا منها مدينة قلهات، في سفح جبل، فخيل لنا أنها قريبة. وكان وصولنا إلى المرسى وقت الزوال أو قبله. فلما ظهرت لنا المدينة أحببت المشي إليها والمبيت بها، وكنت قد كرهت صحبة أهل المركب، فسألت عن طريقها، فأخبرت أني أصل إليها العصر. فاكتريت أحد البحريين ليدلني على طريقها، وصحبني خضر الهندي الذي تقدم ذكره، وتركت أصحابي مع ما كان لي بالمركب ليلحقوا بي في غد ذلك اليوم، وأخذت أثواباً كانت لي، فدفعتها للدليل ليكفيني مؤونة حملها، وحملت في يدي رمحاً. فإذا ذلك الدليل يحب أن يستولي على أثوابي، فأتى بنا إلى خليج يخرج من البحر فيه المد والجزر، فأراد عبوره بالثياب، فقلت له: إنما تعبر وحدك وتترك الثياب عندنا، فإن قدرنا الجواز جزنا، وإلا صعدنا نطلب المجاز فرجع. ثم رأينا رجالاً جازوه عوماً فتحققنا أنه كان قصده أن يغرقنا ويذهب بالثياب. فحينئذ أظهرت النشاط وأخذت بالحزم وشددت وسطي وكنت أهز الرمح، فهابني ذلك الدليل وصعدنا حتى وجدنا مجازاً، ثم خرجنا إلى صحراء لا ماء بها، واشتد الأمر، فبعث الله لنا فارساً في جماعة من أصحابه وبيد أحدهم ركوة ماء فسقاني وسقى صاحبي. وذهبنا نحسب المدينة قريبة منا، وبيننا وبينها خنادق نمشي فيها الأميال الكثيرة. فلما جاء العشي أراد الدليل أن يميل بنا إلى ناحية البحر، وهو لا طريق له، لأن ساحله حجارة. فأراد أن ننشب فيها ويذهب بالثياب. فقلت له: إنما نمشي على هذه الطريق التي نحن عليها، وبينها وبين البحر نحو ميل. فلما أظلم الليل قال لنا، إن المدينة قريبة، فتعالوا نمشي حتى نبيت بخارجها إلى الصباح. فخفت أن يتعرض لنا أحد في الطريق، ولم أحقق مقدار ما بقي، إليها، فقلت له: إنما الحق أن نخرج عن الطريق فننام، فإذا أصبحنا أتينا المدينة إن شاء الله. وكنت قد رأيت جملة من الرجال في سفح جبل هنالك، فخفت أن يكونوا لصوصاً، وقلت التستر أولى. وغلب العطش على صاحبي فلم يوافق على ذلك. فخرجت عن الطريق، وقصدت شجرة من شجر أم غيلان، وقد أعييت وأدركني الجهد، لكني أظهرت قوة وتجلداً، خوف الدليل. وأما صاحبي فمريض لا قوة له. فجعلت الدليل بيني وبين صاحبي، وجعلت الثياب بين ثوبي وجسدي، وأمسكت الرمح بيدي ورقد صاحبي ورقد الدليل، وبقيت ساهراً. فكلما تحرك الدليل كلمته وأريته أني مستيقظ، ولم نزل كذلك حتى الصبح.
ثم خرجنا إلى الطريق فوجدنا الناس ذاهبين بالمرافق إلى المدينة، فبعثت الدليل ليأتينا بماء، وأخذ صاحبي الثياب. وكان بيننا وبين المدينة مهاوٍ وخنادق. فأتان بالماء فشربنا، وذلك أوان الحر، ثم وصلنا إلى مدينة قلهات " وضبط اسمها بفتح القاف واسكان اللام وآخره تاء مثناة "، فأتيناها ونحن في جهد عظيم. وكنت قد ضاقت نعلي على رجلي حتى كاد الدم يخرج من تحت أظفارها، فلما وصلنا باب المدينة كان ختام المشقة، أن قال لنا الموكل بالباب: لا بد لك أن تذهب معي إلى أمير المدينة ليعرف قضيتك، ومن أين قدمت. فذهبت معه إليه فرأيته فاضلاً حسن الأخلاق، وسألني عن حالي وأنزلني، وأقمت عنده ستة أيام، لا قدرة لي فيها على النهوض على قدمي لما لحقها من الآلام.
ومدينة قلهات على الساحل، وهي حسنة الأسواق، ولها مسجد من أحسن المساجد. حيطانه بالقاشاني، وهو شبه الزليج. وهو مرتفع، ينظر منه إلى البحر، والمرسى، وهو من عمارة الصالحة بيبي مريم، ومعنى بيبي عندهم الحرة. وأكلت بهذه المدينة سمكاً لم آكل مثله في إقليم من الأقاليم، وكنت أفضله على جميع اللحوم، فلا آكل سواه. وهم يشوونه على ورق الشجر، ويجعلونه على الأرز، ويأكلونه. والأرز يجلب إليهم من أرض الهند. وهم أهل تجارة، ومعيشتهم مما يأتي إليهم في البحر الهندي. وإذا وصل إليهم مركب فرحوا به أشد الفرح. وكلامهم ليس بالفصيح مع أنهم عرب. وكل كلمة يتكلمون بها يصلونها بلا. فيقولون مثلا: تأكل لا، تمشي لا، تفعل كذا لا. وأكثرهم خوارج. لكنهم لا يقدرون على إظهار مذهبهم، لأنهم تحت طاعة السلطان قطب الدين تمتهن ملك هرمز، وهو من أهل السنة. وبمقربة من قلهات قرية طيبي، واسمها على نحو اسم الطيب إذ أضافه المتكلم لنفسه. وهي من أجمل القرى وأبدعها حسناً، ذات أنهار جارية وأشجار ناضرة وبساتين كثيرة. ومنها تجلب الفواكه إلى قلهات. وبها الموز المعروف بالمرواري بالفارسية هو الجوهري " المروار الجوهر "، وهو كثير بها، وجلب منها إلى هرمز وسواها. وبها أيضاً التنبول، لكن ورقته صغيرة. والتمر يجلب إلى هذه الجهات من عمان. ثم قصدنا بلاد عمان، فسرنا ستة أيام في صحراء، ثم وصلنا بلاد عمان في اليوم السابع. وهي خصبة ذات أنهار وأشجار وبساتين وحدائق ونخل وفاكهة كثيرة مختلفة الأجناس. ووصلنا إلى قاعدة هذه البلاد وهي مدينة نزوا " وضبط اسمها بنون مفتوح وزاي مسكن وواو مفتوح "، مدينة في سفح جبل ، تحف بها البساتين والأنهار. يأتي كل إنسان بما عنده، ويجتمعون للأكل في صحن المسجد، ويأكل معهم الوارد والصادر. ولهم نجدة وشجاعة. والحرب قائمة فيما بينهم أبداً. وهم أباضية المذهب. ويصلون الجمعة ظهراً أربعاً، فإذا فرغوا منها قرأ الإمام أيات من القرآن، ونثر كلاماً شبه الخطبة يرضى فيه عن أبي بكر وعمر، ويسكت عن عثمان وعلي. وهم أرادوا ذكر علي رضي الله عنه كنوا عنه، فقالوا: ذكر عن الرجل أو قال الرجل. ويرضون عن الشقي اللعين ابن ملجم، ويقولون فيه: العبد الصالح قامع الفتنة. ونساؤهم يكثرن الفساد، ولا غيرة عندهم، ولا إنكار لذلك. وسنذكر حكاية إثر هذا مما يشهد بذلك.
ذكر سلطان عمان
وسلطانها عربي من قبيلة الأزد بن الغوث، ويعرف بأبي محمد ابن نبهان. وأبو محمد عندهم سمة لكل سلطان يلي عمان، كما هي أتابك عند ملوك اللور. وعادته أن يجلس خارج باب داره في مجلس هنالك، ولا حاجب له ولا وزير، ولا يمنع أحداً من الدخول إليه من غريب أو غيره، ويكرم الضيف على عادة العرب، ويعين له الضيافة، ويعطيه على قدره. وله أخلاق حسنة. ويؤكل على مائدته لحم الحمار الإنسي، ويباع بالسوق، لأنهم قائلون بتحليله، ولكنهم يخفون ذلك عن الوارد عليهم، ولا يظهرونه بمحضره. ومن مدن عمان مدينة زكي لم أدخلها، وهي على ما ذكر لي، مدينة عظيمة منها القريات وشبا وكلبا وخورفكان وصحار، وكلها ذات أنهار وحدائق وأشجار ونخل، وأكثر هذه البلاد في عمالة هرمز.
حكاية
كنت يوماً عند السلطان أبي محمد بن نبهان فأتته امرأة صغيرة السن حسنة الصورة بادية الوجه، فوقفت بين يديه وقالت له: يا أبا محمد طغا الشيطان في رأسي. فقال لها: اذهبي واطردي الشيطان. فقالت له: لا أستطيع وأنا في جوارك يا أبا محمد. فقال لها: اذهبي فافعلي ما شئت. فذكر لي لما انصرفت عنه أن هذه ومن فعل مثل فعلها تكون في جوار السلطان، وتذهب للفساد، ولا يقدر أبوها ولا ذوو قرابتها أن يغيروا عليها، وإن قتلوها قتلوا بها، لأنها في جوار السلطان. ثم سافرت من بلاد عمان إلى بلاد هرمز، وهرمز مدينة على ساحل البحر، وتسمى أيضاً موغ أستان، وتقابلها في البحر هرمز الجديدة، وبينهما في البحر ثلاثة فراسخ. ووصلنا إلى هرمز الجديدة، وهي جزيرة مدينتها تسمى جرون " بفتح الجيم والراء وآخرها نون "، وهي مدينة حسنة كبيرة لها أسواق حافلة، وهي مرسى الهند والسند، ومنها تحمل سلع الهند إلى العراقين وفارس وخراسان. وهذه المدينة سكنى السلطان، والجزيرة التي فيها المدينة مسيرة يوم، وأكثرها سباخ وجبال ملح، وهو الملح الداراني، ومنه يصنعون الأواني المزينة والمنارات التي يضعون السرج عليها. وطعامهم السمك والتمر المجلوب إليهم من البصرة وعمان. ويقولون بلسانهم: خرما وما هي لوت بادشاهي، معناه بالعربي التمر والسمك طعام الملوك. وللماء في الجزيرة قيمة، وبها عيون ماء وصهاريج مصنوعة، يجتمع فيها ماء المطر. وهي على بعد من المدينة، ويأتون إليها بالقرب فيملأونها ويرفعونها على ظهورهم إلى البحر، يوسقونها في القوارب ويأتون بها إلى المدينة. ورأيت من العجائب عند باب الجامع فيما بينه وبين السوق رأس سمكة كأنه رابية وعيناه كأنهما بابان، فترى الناس يدخلون في إحداهما، ويخرجون من الأخرى. ولقيت بهذه المدينة الشيخ الصالح السائح أبا الحسن الأقطاراني، وأصله من بلاد الروم، فأضافني وزارني وألبسني ثوباً، وأعطاني كمر الصحبة، وهو يحتبي به، فيعين الجالس، فيكون كأنه مستند. وأكثر فقراء العجم يتقلدونه. وعلى ستة أميال من هذه المدينة مزار ينسب إلى الخضر والياس عليهما السلام. يذكر أنهما يصليان فيه، وظهرت له بركات وبراهين. وهنالك زاوية يسكنها أحد المشايخ يخدم بها الوارد والصادر، وأقمنا عنده يوماً، وقصدنا من هنالك زيارة رجل صالح منقطع في آخر هذه الجزيرة، قد نحت غاراً لسكناه. فيه زاوية ومجلس ودار صغيرة له. فيها جارية وله عبيد خارج الغار يرعون بقراً له وغنماً. وكان هذا الرجل من كبار التجار فحج البيت وقطع العلائق وانقطع هنالك للعبادة، ودفع ماله لرجل من إخوانه يتجر له به. وبتنا عنده ليلة، فأحسن القرى وأجمل، رضي الله تعالى عنه، وسيمة الخير والعبادة لائحة عليه.
ذكر سلطان هرمز
وهو السلطان قطب الدين تمتهن طوران شاه " وضبط اسمه بفتح التاءين المعلوتين وبينهما ميم مفتوح وهاء مسكنة وآخره نون "، وهو من كرماء السلاطين، كثير التواضع حسن الأخلاق، وعادته أن يأتي لزيارة كل من يقدم عليه من فقيه أو صالح أو شريف ويقوم بحقه، ولما دخلنا جزيرته وجدناه مهيأ للحرب مشغولاً بها مع ابني أخيه نظام الدين. فكان في كل ليلة يتيسر للقتال. والغلاء مستولٍ على الجزيرة، فأتى إلينا وزيره شمس الدين محمد بن علي وقاضيه عماد الدين الشونكاري وجماعة من الفضلاء، فاعتذروا بما هم عليه من مباشرة الحرب. وأقمنا عندهم ستة عشر يوماً. فلما أردنا الانصراف قلت لبعض الأصحاب: كيف ننصرف ولا نرى هذا السلطان ? فجئنا على الوزير وكانت داره في جوار الزاوية التي نزلت بها، فقلت له، إني أريد السلام على الملك. فقال بسم الله، وأخذ بيدي فذهب بي إلى داره، وهي على ساحل البحر، والأجفان مجلسة عندها. فإذا شيخ عليه أقبية ضيقة دنسة، وعلى رأسه عمامة، وهو مشدود الوسط بمنديل، فسلم عليه الوزير وسلمت عليه ولم أعرف انه الملك. وكان إلى جانبه ابن اخته، وهو علي شاه ابن جلال الدين الكيجي، وكانت بيني وبينه معرفة، فأنشأت أحادثه، وأنا لا أعرف الملك، فعرفني الوزير بذلك. فخجلت منه لإقبالي بالحديث على ابن أخته دونه واعتذرت، ثم قام فدخل داره، وتبعه الأمراء والوزراء وأرباب الدولة. ودخلت مع الوزير، فوجدناه قاعداً على سرير ملكه وثيابه عليه لم يبدلها وفي يده سبحة جوهر، لم تر العيون مثلها لأن مغاصات الجوهر تحت حكمه. فجلس أحد الأمراء إلى جانبه، وجلست إلى جانب ذلك الأمير، وسألني عن حالي ومقدمي وعمن لقيته من الملوك فأخبرته بذلك. وحضر الطعام فأكل الحاضرون ولم يأكل معهم، ثم قام فودعته وانصرفت. وسبب الحرب التي بينه وبين ابني أخيه أنه ركب البحر مرة من مدينته الجديدة برسم النزهة في هرمز القديمة وبساتينها، وبينهما في البحر ثلاثة فراسخ كما قدمناه. فخالف عليه أخوه نظام الدين، ودعا لنفسه وبايعه أهل الجزيرة وبايعته العساكر، فخاف قطب الدين على نفسه وركب البحر إلى مدينة قلهات التي تقدم ذكرها، وهي من جملة بلاده، فأقام بها شهوراً وجهز المراكب وأتى الجزيرة، فقاتله أهلها مع أخيه وهزموه. وعاد إلى قلهات، وفعل ذلك مراراً. فلم تكن له حيلة إلا أن يراسل بعض نساء أخيه فسمته ومات. وأتى هو إلى الجزيرة فدخلها، وفر ابنا أخيه بالخزائن والأموال والعساكر إلى جزيرة قيس، حيث مغاص الجوهر، وصاروا يقطعون الطريق على من يقصد الجزيرة من أهل الهند والسند، ويغيرون على بلاده البحرية، حتى تخرب معظمها. ثم سافرنا من مدينة جرون برسم لقاء رجل صالح ببلد خنج بال. فلما عدينا البحر اكترينا دواب من التركمان، وهم سكان تلك البلاد، ولا يسافر فيها إلا معهم لشجاعتهم ومعرفتهم بالطرق. وفيها صحراء مسيرة أربع، يقطع بها الطريق لصوص الأعراب، وتهب فيها ريح السموم في شهري تموز وحزيران، فمن صادفته فيها قتلته. ولقد ذكر لي أن الرجل إذا قتلته تلك الريح وأراد أصحابه غسله ينفصل كل عضو منه عن سائر الأعضاء. وبها قبور كثيرة للذين ماتوا فيها بهذه الريح، وكنا نسافر فيها بالليل، فإذا طلعت الشمس نزلنا تحت ظلال الأشجار من أم غيلان، ونرحل بعد العصر إلى طلوع الشمس. وفي هذه الصحراء وما والاها كان يقطع الطريق بها جمال اللك الشهير الاسم هنالك.
حكاية
كان جمال اللك من أهل سجستان أعجمي الأصل " واللك بضم اللام " معناه الأقطع. وكانت يده قطعت في بعض حروبه. وكانت له جماعة كثيرة من فرسان الأعراب والأعاجم يقطع بهم الطرق. وكان يبني الزوايا، ويطعم الوارد والصادر من الأموال التي يسلبها من الناس. ويقال: إنه كان يدعو أن لا يسلط إلا على من لا يزكي ماله، وأقام على ذلك دهراً. وكان يغير هو وفرسانه ويسلكون براري لا يعرفها سواهم، ويدفنون بها قرب الماء ورواياه. فإذا تبعهم عسكر السلطان دخلوا الصحراء واستخرجوا المياه، ويرجع العسكر عنهم خوفاً من الهلاك. وأقام على هذه الحالة مدة لا يقدر عليه ملك العراق ولا غيره، ثم تاب وتعبد حتى مات، وقبره يزار ببلده. وسلكنا هذه الصحراء إلى أن وصلنا إلى كوراستان " وضبط اسمه بفتح الكاف واسكان الواو وراء "، وهو بلد صغير فيه الأنهار والبساتين وهو شديد الحر. ثم سرنا منه ثلاثة أيام في صحراء مثل التي تقدمت ووصلنا إلى مدينة لار " وآخر اسمها راء "، مدينة كبيرة كثيرة العيون والمياه المطردة والبساتين. ولها أسواق حسان، ونزلنا منها بزاوية الشيخ العابد أبي دلف محمد وهو الذي قصدنا زيارته بخنج بال. وبهذه الزاوية ولده أبو زيد عبد الرحمن، ومعه جماعة من الفقراء. ومن عادتهم أنهم يجتمعون بالزاوية بعد صلاة العصر من كل يوم، ثم يطوفون على دور المدينة فيعطاهم من كل دار الرغيف والرغيفان، فيطعمون منها الوارد والصادر. وأهل الدور قد ألفوا ذلك فهم يجعلونه في جملة قوتهم، ويعدونه لهم إعانة على إطعام الطعام. وفي كل ليلة جمعة يجتمع بهذه الزاوية فقراء المدينة وصلحاؤها، ويأتي كل منهم بما تيسر له من الدراهم، فيجمعونها وينفقونها تلك الليلة، ويبيتون في عبادة من الصلاة والذكر والتلاوة، وينصرفون بعد صلاة الصبح.
ذكر سلطان لار
وبهذه المدينة سلطان يسمى بجلال الدين، تركماني الأصل، بعث إلينا بضيافة. ولم نجتمع به ولا رأيناه. ثم سافرنا إلى مدينة خنج بال " وضبط اسمها بضم الخاء المعجم وقد يعوض منه هاء وإسكان النون وضم الجيم وباء معقودة وألف ولام "، وبها سكنى الشيخ أبي دلف الذي قصدنا زيارته، وبزاويته نزلنا. ولما دخلت الزاوية، رأيته قاعداً بناحية منها على التراب، وعليه جبة صوف خضراء بالية، وعلى رأسه عمامة صوف سوداء، فسلمت عليه، فأحسن الرد، وسألني عن مقدمي وبلادي وأنزلني. وكان يبعث إلي الطعام والفاكهة مع ولد له من الصالحين، كثير الخشوع والتواضع صائم الدهر كثير الصلاة. ولهذا الشيخ أبي دلف شأن عجيب وأمر غريب، فإن نفقته في هذه الزاوية عظيمة. وهو يعطي العطاء الجزيل، ويكسو الناس، ويركبهم الخيل، ويحسن لكل وارد وصادر. ولم أر في تلك البلاد مثله، ولا يعلم له جهة إلا ما يصله من الإخوان والاصحاب، حتى زعم كثير من الناس أنه ينفق من الكون. وفي زاويته المذكورة قبر الشيخ الولي الصالح القطب دانيال، وله اسم بتلك البلاد شهير. وشأن في الولاية كبير. وعلى قبره قبة عظيمة بناها السلطان قطب الدين تمتهن بن طوران شاه. وأقمت عند الشيخ أبي دلف يوماً واحداً، لاستعجال الرفقة التي كنت في صحبتها. وسمعت أن بالمدينة خنج بال المذكورة زاوية فيها جملة من الصالحين المتعبدين، فرحت إليها بالعشي، وسلمت على شيخهم وعليهم، ورأيت جماعة مباركة قد أثرت فيهم العبادة، فهم صفر الألوان نحاف الجسوم كثيرو البكاء غزيرو الدموع، وعند وصولي إليهم أتوا بالطعام. فقال كبيرهم: ادعوا إلي ولدي محمداً وكان معتزلاً في بعض نواحي الزاوية. فجاء إلينا الولد، وهو كأنما خرج من قبر مما نهكته العبادة، فسلم وقعد. فقال له أبوه: يا بني، شارك هؤلاء الواردين في الأكل تنل من بركاتهم، وكان صائماً فأفطر معنا، وهم شافعية المذهب، فلما فرغنا من أكل الطعام دعوا لنا وانصرفنا. ثم سافرنا منها إلى مدينة قيس. وتسمى أيضاً بسيراف، وهي على ساحل بحر الهند المتصل ببحر اليمن وفارس، وعدادها في كور فارس مدينة لها انفساح وسعة، طيبة البقعة، في دورها بساتين عجيبة، فيها الرياحين والأشجار الناضرة. وشرب أهلها من عيون منبعثة من جبالها، وهم عجم من الفرس أشراف، وفيهم طائفة من عرب بني سفاف، وهم الذين يغوصون على الجوهر.
ذكر مغاص الجوهر
ومغاص الجوهر فيما بين سيراف والبحرين في خور راكد مثل الوادي العظيم، فإذا كان شهر إبريل، وشهر مايو تأتي إليه القوارب الكثيرة فيها الغواصون وتجار فارس والبحرين والقطيف ويجعل الغواص على وجهه مهما أراد أن يغوص شيئاً يكسوه من عظم الغيلم، وهي السلحفاة ويصنع من هذا العظم أيضاً شكلاً شبه المقراض، يشده على أنفه، ثم يربط حبلاً في وسطه، ويغوص، ويتفاوتون في الصبر في الماء، فمنهم من يصبر الساعة والساعتين فما دون ذلك فإذا وصل إلى قعر البحر يجد الصدف هنالك فيما بين الأحجار الصغار. مثبتاً في الرمل، فيقتلعه بيده، أو يقطعه بحديدة عنده، معدة لذلك، ويجعلها في مخلاة جلد منوطة بعنقه، فإذا ضاق نفسه، حرك الحبل فيحس به الرجل الممسك للحبل على الساحل، فيرفعه إلى القارب، فتؤخذ منه المخلاة، ويفتح الصدف فيوجد في أجوافها قطع اللحم تقطع بحديدة، فإذا باشرت الهواء جمدت فصارت جواهر ، فيجمع جميعها من صغير وكبير، فيأخذ السلطان خمسه والباقي يشتريه التجار الحاضرون بتلك القوارب وأكثرهم يكون له الدين على الغواصين، فيأخذ الجوهر في دينه أو ما وجب له منه، ثم سافرنا من سيراف إلى مدينة البحرين، وهي مدينة كبيرة حسنة ذات بساتين وأشجار وأنهار، وماؤها قريب المؤونة يحفر عليه بالأيدي فيوجد، وبها حدائق النخل والرمان والأترج، يزرع بها القطن وهي شديدة الحر كثيرة الرمال وربما غلب الرمل على بعض منازلها وكان فيما بينها وبين عمان طريق استولت عليه الرمال وانقطع، فلا يوصل من عمان إليها إلا في البحر، وبالقرب منها جبلان عظيمان يسمى أحدهما بكسير، وهو في غربيها، ويسمى الآخر يعوير وهو في شرقيها وبهما ضرب المثل فقيل " كسير وعوير وكل غير خير، ثم سافرنا إلى مدينة القطيف، " وضبط اسمها بضم القاف "، كأنه تصغير قطف، وهي مدينة كبيرة حسنة ذات نخل كثير يسكنها طوائف العرب، وهم رافضية غلاة، يظهرون الرفض جهاراً لا يبقون أحداً، ويقول مؤذنهم في أذانه بعد الشهادتين: أشهد أن علياً ولي الله ويزيد بعد الحيعلتين: حي على خير العمل، ويزيد بعد التكبير الأخير محمد وعلي خير البشر، ومن خالفهما فقد كفر. ثم سافرنا منها إلى مدينة هجر وتسمى الآن بالحسا " بفتح الحاء والسين واهمالهما " وهي التي يضرب المثل بها، فيقال: كجالب التمر إلى هجر، وبها من النخيل ما ليس ببلد سواها ومنه يعلفون دوابهم، وأهلها عرب، وأكثرهم من قبيلة عبد القيس بن أفصى. ثم سافرنا منها إلى مدينة اليمامة وتسمى أيضاً بحجر " بفتح الحاء المهمل واسكان الجيم " مدينة حسنة خصبة ذات أنهار وأشجار، يسكنها طوائف من العرب، وأكثرهم من بني حنيفة، وهي بلدهم قديماً، وأميرهم طفيل بن غانم، ثم سافرت منها في صحبة هذا الأمير برسم الحج وذلك في سنة اثنتين وثلاثين فوصلت إلى مكة شرفها الله تعالى. وحج في تلك السنة الملك الناصر سلطان مصر رحمه الله وجملة من أمرائه، وهي آخر حجة حجها، وأجزل الإحسان لأهل الحرمين الشريفين وللمجاورين وفيها قتل الملك الناصر أمير أحمد الذي يذكر أنه ولده، وقتل أيضاً كبير أمرائه بكتمور الساقي.
حكاية
ذكر أن الملك الناصر وهب لبكتمور الساقي جارية، فلما أراد الدنو منها قالت له: إني حامل من الملك الناصر فاعتزلها وولدت ولداً سماه بأمير أحمد، ونشأ في حجره، فظهرت نجابته واشتهر بابن الملك الناصر، فلما كان في هذه الحجة تعاهد على الفتك بالملك الناصر، وأن يتولى أمير أحمد الملك، وحمل بكتمور معه العلامات والطبول والكسوات والأموال، فنمي الخبر إلى الملك الناصر، فبعث إلى أمير أحمد في يوم شديد الحر، فدخل عليه، وبين يديه أقداح الشرب، فشرب الملك الناصر قدحاً، وناول أمير أحمد قدحاً ثانياً فيه السم فشربه، وأمر بالرحيل في تلك الساعة ليشغل الوقت فرحل الناس، ولم يبلغوا المنزل حتى مات أمير أحمد، فاكترث بكتمور لموته، وقطع أثوابه، وامتنع من الطعام والشراب وبلغ خبره إلى الملك الناصر فأتاه بنفسه ولاطفه وسلاه، وأخذ قدحاً فيه سم فناوله إياه وقال له: بحياتي عليك إلا شربت فبردت نار قلبك، فشربه ومات من حينه، ووجد عنده الخلع السلطنة والأموال فتحقق ما نسب من الفتك بالملك الناصر. ولما انقضى الحج توجهت إلى جدة برسم ركوب البحر إلى اليمن والهند فلم يقض لي ذلك، ولا تأتى لي رفيق، وأقمت بجدة نحو أربعين يوماً وكان بها مركب لرجل يعرف بعبد الله التونسي يروم السفر إلى القصير، من عمالة قوص فصعدت إليه لأنظر حاله فلم يرضني، ولا طابت نفسي بالسفر فيه وكان ذلك لطفاً من الله تعالى. فإنه سافر، فلما توسط البحر غرق بموضع يقال له: رأس أبي محمد، فخرج صاحبه وبعض التجار في العشاري بعد جهد عظيم، واشرفوا على الهلاك، وهلك بعضهم، وغرق سائر الناس وكان فيه نحو سبعين من الحجاج، ثم ركبت البحر بعد ذلك في صنبوق برسم عيذاب، فردتنا الريح إلى جبل يعرف برأس دواير وسافرنا منه في البر مع البجاة. ووردنا ماء كثيرة النعام والغزلان، فيها عرب جهينة وبني كاهل وطاعتهم للبجاة. ووردنا ماء يعرف بمفرور، وماء يعرف بالجديد. ونفذ زادنا فاشترينا من قوم من البجاة وجدناهم بالفلاة أغناماً وتزودنا لحومها ورأيت بهذه الفلاة صبياً من العرب كلمني باللسان العربي وأخبرني أن البجاة أسروه، وزعم أنه منذ عام لم يأكل طعاماً. وإنما يقتات بلبن الإبل ونفد منا بعد ذلك اللحم الذي اشتريناه، ولم يبق لنا زاد وكان عندي نحو حمل من التمر الصيحاني والبرني برسم الهدية لأصحابي ففرقته على الرفقة، وتزودناه ثلاثاً وبعد مسيرة تسعة أيام من رأس دواير، وصلنا إلى عيذاب وكان قد تقدم إليها بعض الرفقة، فتلقانا أهلها بالخبز والتمر والماء وأقمنا بها أياماً واكترينا الجمال وخرجنا صحبة طائفة من عرب دغيم ووردنا ماء يعرف بالجنيب ولعله " الخبيب "، وحللنا بحميثرا، حيث قبر ولي الله تعالى أبي الحسن الشاذلي، وحصلت لنا زيارته ثانية، وبتنا في جواره ثم وصلنا إلى قرية العطواني، وهي على ضفة النيل، مقابلة لمدينة إدفو من الصعيد الأعلى. وأجزنا النيل إلى مدينة أسنا ثم إلى مدينة أرمنت ثم إلى الأقصر، وزرنا الشيخ أبا الحجاج الأقصري ثانية ثم إلى مدينة قوص ثم إلى مدينة قنا وزرنا الشيخ عبد الرحيم القناوي ثانية، ثم إلى مدينة هو ثم إلى مدينة أخميم ثم إلى مدينة أسيوط، ثم إلى منفلوط، ثم إلى مدينة منلوى، ثم إلى مدينة الأشمونين، ثم إلى مدينة منية بن الخصيب ثم إلى مدينة البهنسة ثم إلى مدينة بوش ثم إلى مدينة منية القائد. وقد تقدم لنا ذكر هذه البلاد، ثم إلى مصر وأقمت بها أياماً وسافرت على طريق بلبيس إلى الشام ورافقني الحاج عبد الله بن أبي بكر بن الفرحان النوزري، ولم يزل في صحبتي سنين، إلى أن خرجنا من بلاد الهند، فتوفي بسندابور، وسنذكر ذلك، فوصلنا إلى مدينة غزة ثم إلى مدينة الخليل عليه السلام، وتكررت لنا زيارته، ثم إلى بيت المقدس ثم إلى مدينة الرملة ثم إلى مدينة عكا ثم إلى مدينة طرابلس ثم إلى مدينة جبلة وزرنا إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه ثانية، ثم إلى مدينة اللاذقية، وقد تقدم لنا ذكر هذه البلاد كلها ومن اللاذقية ركبنا البحر في قرقورة كبيرة للجنويين يسمى صاحبها بمرتلمين، وقصدنا بر التركية المعروف ببلاد الروم، وإنما نسبت إلى الروم لأنها كانت بلادهم في القديم، ومنها الروم الأقدمون واليونانية ثم استفتحها المسلمون وبها الآن كثير من النصارى تحت ذمة المسلمين من التركمان وسرنا في البحر عشراً بريح طيبة، وأكرمنا النصراني ولم يأخذ منا نولاً. وفي العاشر وصلنا إلى مدينة العلايا، وهي أول بلاد الروم وهذا الأقليم المعروف ببلاد الروم من أحسن أقاليم الدنيا وقد جمع الله فيه ما تفرق من المحاسن في البلاد فأهله أجمل الناس صوراً وأنظفهم ملابس وأطيبهم مطاعم وأكثر خلق الله شفقة ولذلك يقال البركة في الشام، والشفقة في الروم وإنما عنى به أهل هذه البلاد. وكنا متى نزلنا بهذه البلاد زاوية أو داراً، يتفقد أحوالنا جيراننا من الرجال والنساء، وهن لا يحتجبن فإذا سافرنا عنهم ودعونا كأنهم أقاربنا وأهلنا وترى النساء باكيات لفراقنا متأسفات ومن عادتهم بتلك البلاد أن يخبزوا الخبز في يوم واحد من الجمعة، يعدون فيه ما يفوتهم سائرها فكان رجالهم يأتون إلينا بالخبز الحار في يوم خبزه، ومعه الإدام الطيب إطرافاً لنا بذلك، ويقولن لنا: إن النساء بعثن هذا إليكم وهن يطلبن منكم الدعاء، وجميع أهل هذه البلاد على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، مقيمين على السنة لا قدري فيهم ولا رافضي ولا معتزلي ولا خارجي ولا مبتدع وتلك فضيلة خصهم الله تعالى بها. إلا أنهم يأكلون الحشيش ولا يعيبون ذلك. ومدينة العلايا التي ذكرناها كبيرة على ساحل البحر، يسكنها التركمان، وينزلها تجار مصر وإسكندرية والشام وهي كثيرة الخشب، ومنها يحمل إلى اسكندرية ودمياط، ويحمل منها إلى سائر بلاد مصر، ولها قلعة بأعلاها عجيبة منيعة، بناها السلطان المعظم علاء الدين الرومي، ولقيت بهذه المدينة قاضيها جلال الدين أرزنجاني، وصعد معي إلى القلعة يوم الجمعة فصلينا بها. وأضافني وأكرمني، وأضافني أيضاً بها شمس الدين ابن الرجيحاني الذي توفي أبوه علاء الدين بمالي من بلاد السودان. وأكرمنا النصراني ولم يأخذ منا نولاً. وفي العاشر وصلنا إلى مدينة العلايا، وهي أول بلاد الروم وهذا الأقليم المعروف ببلاد الروم من أحسن أقاليم الدنيا وقد جمع الله فيه ما تفرق من المحاسن في البلاد فأهله أجمل الناس صوراً وأنظفهم ملابس وأطيبهم مطاعم وأكثر خلق الله شفقة ولذلك يقال البركة في الشام، والشفقة في الروم وإنما عنى به أهل هذه البلاد. وكنا متى نزلنا بهذه البلاد زاوية أو داراً، يتفقد أحوالنا جيراننا من الرجال والنساء، وهن لا يحتجبن فإذا سافرنا عنهم ودعونا كأنهم أقاربنا وأهلنا وترى النساء باكيات لفراقنا متأسفات ومن عادتهم بتلك البلاد أن يخبزوا الخبز في يوم واحد من الجمعة، يعدون فيه ما يفوتهم سائرها فكان رجالهم يأتون إلينا بالخبز الحار في يوم خبزه، ومعه الإدام الطيب إطرافاً لنا بذلك، ويقولن لنا: إن النساء بعثن هذا إليكم وهن يطلبن منكم الدعاء، وجميع أهل هذه البلاد على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، مقيمين على السنة لا قدري فيهم ولا رافضي ولا معتزلي ولا خارجي ولا مبتدع وتلك فضيلة خصهم الله تعالى بها. إلا أنهم يأكلون الحشيش ولا يعيبون ذلك. ومدينة العلايا التي ذكرناها كبيرة على ساحل البحر، يسكنها التركمان، وينزلها تجار مصر وإسكندرية والشام وهي كثيرة الخشب، ومنها يحمل إلى اسكندرية ودمياط، ويحمل منها إلى سائر بلاد مصر، ولها قلعة بأعلاها عجيبة منيعة، بناها السلطان المعظم علاء الدين الرومي، ولقيت بهذه المدينة قاضيها جلال الدين أرزنجاني، وصعد معي إلى القلعة يوم الجمعة فصلينا بها. وأضافني وأكرمني، وأضافني أيضاً بها شمس الدين ابن الرجيحاني الذي توفي أبوه علاء الدين بمالي من بلاد السودان.
ذكر سلطان العلايا
وفي يوم السبت ركب معي القاضي جلال الدين، وتوجهنا إلى لقاء ملك العلايا وهو يوسف بك ومعنى بك الملك ابن قرمان، " بفتح القاف والراء " ومسكنه على عشرة أميال من المدينة فوجدناه قاعداً على الساحل وحده فوق رابية هنالك، والأمراء والوزراء أسفل منه، والأجناد عن يمينه ويساره، وهو مخضوب الشعر بالسواد، فسلمت عليه، وسألني عن مقدمي، فأخبرته عما سأل، وانصرفت عنه وبعث إلي إحساناً، وسافرت من هنالك إلى مدينة أنطاليا " وضبط اسمها بفتح الهمزة واسكان النون وفتح الطاء المهمل والف ولام مكسور وياء آخر الحروف " وأما التي بالشام فهي أنطاكية على وزنها، إلا أن الكاف عوض عن اللام، وهي من أحسن المدن، متناهية في اتساع الساحة والضخامة، أجمل ما يرى من البلاد وأكثره عمارة وأحسنه ترتيباً، وكل فرقة من سكانها منفردة بأنفسها عن الفرقة الأخرى فتجار النصارى ماكثون منها بالموضع المعروف بالميناء، وعليهم سور تسد أبوابه عليهم ليلاً وعند صلاة الجمعة. والروم الذين كانوا أهلها قديماً ساكنون بموضع آخر منفردين به، وعليهم أيضاً سور. واليهود في موضع آخر، وعليهم سور، والملك وأهل دولته ومماليكه يسكنون ببلدة عليها أيضاً سور يحيط بها، ويفرق بينها وبين ما ذكرناه من الفرق وسائر الناس من المسلمين يسكنون المدينة العظمى، وبها مسجد جامع ومدرسة وحمامات كثيرة وأسواق ضخمة مرتبة بأبدع ترتيب، وعليها سور عظيم يحيط بها وبجميع المواضع التي ذكرناها، وفيها البساتين الكثيرة والفواكه الطيبة والمشمش العجيب المسمى عندهم بقمر الدين وفي نواته لوز حلو وهو ييبس ويحمل إلى ديار مصر وهو بها مستظرف وفيها عيون الماء الطيب العذب الشديد البرودة في أيام الصيف نزلنا من هذه المدينة بمدرستها وشيخها شهاب الدين الحموي، ومن عادتهم أن يقرأ جماعة من الصبيان بالأصوات الحسان بعد العصر من كل يوم في المسجد الجامع، وفي المدرسة أيضاً سورة الفتح وسورة الملك وسورة عم.
ذكر الأخية الفتيان
واحد الأخية أخي على لفظ الأخ إذا أضافه المتكلم إلى نفسه، وهم بجميع البلاد التركمانية الرومية في كل بلد ومدينة وقرية ولا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالاً بالغرباء من الناس، وأسرع إلى إطعام الطعام وقضاء الحوائج، والأخذ على أيدي الظلمة وقتل الشرط، ومن ألحق بهم من أهل الشر. والأخي عندهم رجل يجتمع أهل صناعته وغيرهم من الشبان الأعزاب والمتجردين، ويقدمونه على أنفسهم، وتلك هي الفتوة أيضاً. ويبني زاوية ويجعل فيها الفرش والسرج وما يحتاج إليه من الآلات ويخدم أصحابه بالنهار في طلب معايشهم ويأتون إليه بعد العصر بما يجتمع لهم، فيشترون به الفواكه والطعام إلى غير ذلك مما ينفق في الزاوية فإن ورد في ذلك اليوم مسافر على البلد أنزلوه عندهم، وكان ذلك ضيافته لديهم، ولا يزال عندهم حتى ينصرف وإن لم يرد وارد، اجتمعوا على طعامهم فأكلوا وغنوا ورقصوا، وانصرفوا إلى صناعتهم بالغدو، وأتوا بعد العصر إلى مقدمهم بما اجتمع لهم ويسمون بالفتيان ويسمى مقدمهم كما ذكرنا الأخي ولم أر في الدنيا أجمل أفعالاً منهم ويشبههم في أفعالهم أهل شيراز وأصفهان إلا أن هؤلاء أحب في الوارد والصادر، وأعظم إكراماً له وشفقة عليه. وفي الثاني من يوم وصولنا إلى هذه المدينة أتى أحد هؤلاء الفتيان إلى الشيخ شهاب الدين الحموي وتكلم معه باللسان التركي، ولم أكن يومئذ أفهمه، وكان عليه أثواب خلقة، وعلى رأسه قلنسوة لبد، فقال لي الشيخ أتعلم ما يقول هذا الرجل ? فقلت لا أعلم ما قال: فقال لي: إنه يدعوك إلى ضيافته أنت وأصحابك فعجبت منه، وقلت له: نعم. فلما انصرف قلت للشيخ هذا رجل ضعيف ولا قدرة له على تضييفنا، ولا نريد أن نكلفه. فضحك الشيخ وقال لي هذا أحد شيوخ الفتيان الأخية هو من الخرازين ، وفيه كرم نفس وأصحابه نحو مائتين من أهل الصناعات قد قدموه على أنفسهم، وبنوا زاوية للضيافة، وما يجتمع لهم بالنهار انفقوه بالليل. فلما صليت المغرب عاد إلينا ذلك الرجل وذهبنا معه إلى زاويته، فوجدناها زاوية حسنة مفروشة بالبسط الرومية الحسان، وبها الكثير من ثريات الزجاج العراقي، وفي المجلس خمسة من البياسيس، والبيسوس شبه المنارة من النحاس له أرجل ثلاث، وعلى رأسه شبه جلاس من النحاس، وفي وسطه أنبوب للفتيلة ويملأ من الشحم المذاب، وإلى جانبه آنية نحاس ملآنة بالشحم، وفيها مقراض لإصلاح الفتيل، وأحدهم موكل بها، ويسمى عندهم الجراجي " الجراغجي " وقد اصطف في المجلس جماعة من الشبان ولباسهم الأقبية وفي أرجلهم الأخفاف وكل واحد منهم متحزم، على وسطه سكين في طول ذراعين، وعلى رؤوسهم قلانس بيض من الصوف، بأعلى كل قلنسوة قطعة موصلة بها في طول ذراع، وعرض إصبعين فإذا استقر بهم المجلس نزع كل واحد منهم قلنسوة، ووضعها بين يديه. وتبقى على رأسه قلنسوة أخرى من الزردخاني وسواه حسنة المنظر، وفي وسط مجلسهم شبه مرتبة موضوعة للواردين. ولما استقر بنا المجلس عندهم أتوا بالطعام الكثير والفاكهة والحلواء، ثم أخذوا في الغناء والرقص فراقنا حالهم، وطال عجبنا من سماحهم، وكرم أنفسهم وانصرفنا عنهم آخر الليل، وتركناهم بزاويتهم.
ذكر سلطان انطالية
وسلطانها خضر بك ابن يونس بك، وجدناه عند وصولنا إليها عليلاً، فدخلنا عليه بداره، وهو في فراش المرض، فكلمنا بألطف كلام وأحسنه وودعناه، وبعث الينا بإحسان. وسافرنا إلى بلدة بردور " وضبط اسمها بضم الباء الموحدة وإسكان الراء وضم الدال المهمل وواو وراء "، وهي بلدة صغير كثيرة البساتين والأنهار، ولها قلعة في رأس جبل شاهق نزلنا بدار خطيبها، واجتمعت الأخية، وأرادوا نزولنا عندهم فأبى عليهم الخطيب، فصنعوا لنا ضيافة في بستان لأحدهم وذهبوا بنا إليها فكان من العجائب إظهارهم السرور بنا، والاستبشار والفرح، وهم لا يعرفون لساننا، ونحن لا نعرف لسانهم، ولا ترجمان فيما بيننا. وأقمنا عندهم يوماً وانصرفنا ثم سافرنا من هذه البلدة إلى بلدة سبرنا " وضبط اسمها بفتح السين المهمل والباء الموحدة وإسكان الراء وفتح التاء المعلوة والف " وهي بلدة حسنة العمارة والأسواق كثيرة البساتين والأنهار، لها قلعة في جبل شامخ وصلنا إليها بالعشي، ونزلنا عند قاضيها وسافرنا منها إلى مدينة أكريدور " وضبط اسمها بفتح الهمزة وسكون الكاف وكسر الراء وياء مد ودال مهمل مضموم وواو مد وراء " مدينة عظيمة كثيرة العمارة حسنة الأسواق ذات أنهار وبساتين، ولها بحيرة عذبة الماء يسافر المركب فيها يومين إلى أقشهر وبقشهر وغيرهما من البلاد والقرى، ونزلنا منها بمدرسة تقابل الجامع الأعظم بها المدرس العام الحاج المجاور الفاضل مصلح الدين قرأ بالديار المصرية والشام وسكن بالعراق. وهو فصيح اللسان حسن البيان، أطروفة من طرف الزمان، أكرمنا غاية الإكرام وقام بحقنا أحسن قيام.
ذكر سلطان أكريدور
وسلطانها أبو إسحاق بك ابن الدندار بك، من كبار سلاطين تلك البلاد، سكن ديار مصر أيام أبيه وحج، وله سيرة حسنة، ومن عادته أنه يأتي كل يوم إلى صلاة العصر بالمسجد الجامع، فإذا قضيت صلاة العصر استند إلى جدار القبلة، وقعد القراء بين يديه على مصطبة خشب عالية، فقرأوا سورة الفتح والملك وعم بأصوات حسان فعالة في النفوس تخشع لها القلوب وتقشعر الجلود وتدمع العيون، ثم ينصرف إلى داره. وأظلنا عنده شهر رمضان فكان يقعد في كل يوم ليلة منه على فراش لاصق بالأرض من غير سرير، ويستند إلى مخدة كبيرة، ويجلس الفقيه مصلح الدين إلى جانبه، وأجلس إلى جانب الفقيه ويلينا أرباب دولته أمراء حضرته ثم يؤتى بالطعام، فيكون أول ما يفطر عليه ثريد في قحفة صغيرة، عليه العدس مسقي بالسمن والسكر، ويقدمون الثريد تبركاً، ويقولون أن النبي صلى الله عليه وسلم فضله على سائر الطعام فنحن نبدأ به لتفضيل النبي له ثم يؤتى بسائر الأطعمة وهكذا فعلهم في جميع ليالي رمضان.
وتوفي في بعض تلك الأيام ولد السلطان، فلم يزيدوا على بكاء الرحمة، كما يفعله أهل مصر والشام، خلافاً لما قدمناه من فعل أهل اللور حين مات ولد سلطانهم فلما دفن أقام السلطان والطلبة ثلاثة أيام يخرجون إلى قبره بعد صلاة الصبح. وثاني يوم من دفنه خرجت مع الناس فرآني السلطان ماشياً برجلي، فبعث لي بفرس واعتذر، فلما وصلت المدرسة بعثت الفرس فرده وقال: إنما أعطيته عطية لا عارية، وبعث إلي بكسوة ودراهم فانصرفنا إلى مدينة قل حصار " وضبط اسمها بضم الكاف وإسكان اللام ثم حاء مهمل مكسور وصاد مهمل وآخره راء " مدينة صغيرة بها المياه من كل جانب، قد نبت فيها القصب، فلا طريق لها إلا طريق كالجسر مهيأ بين القصب والمياه، لا يسع إلا فارساً واحداً، والمدينة على تل في وسط المياه منيعة لا يقدر عليها ونزلنا بزاوية أحد الفتيان الأخية بها.
ذكر سلطان قل حصار
وسلطانها محمد جلبي وجلبي " بجيم معقود ولام مفتوحين وباء موحدة وياء "، وتفسيره بلسان الروم سيدي، وهو أخو السلطان أبي إسحاق ملك أكريدور، ولما وصلنا إلى مدينته كان غائباً عنها فأقمنا بها أياماً ثم قدم فأكرمنا وأركبنا وزودنا، وانصرفنا على طريق قرا أغاج وقرا " بفتح القاف " وتفسيره أسود " وأغاج بفتح الهمزة والغين المعجم وآخره جيم " تفسيره الخشب وهي صحراء خضراء يسكنها التركمان. وبعث معنا السلطان فراساناً يبلغوننا إلى مدينة لاذق. بسبب أن هذه الصحراء يقطع الطريق فيها طائفة يقال لها الجرميان يذكر أنهم من ذرية يزيد بن معاوية، ولهم مدينة يقال لها: كوتاهية فعصمنا الله منهم، ووصلنا إلى مدينة لاذق، " وهي بكسر الذال المعجم وبعده قاف " وتسمى أيضاً دون غزله وتفسيره بلد الخنازير، وهي من أبدع المدن وأضخمها وفيها سبعة من المساجد لإقامة الجمعة، ولها البساتين الرائقة والأنهار المطردة والعيون المنبعة، وأسواقها حسان، وتصنع بها ثياب قطن معلمة بالذهب لا مثل لها تطول أعمارها لصحة قطنها وقوة غزلها وهذه الثياب معروفة بالنسبة إليها، وأكثر الصناع بها نساء الروم، وبها من الروم كثير تحت الذمة، وعليهم وظائف للسلطان من الجزية وسواها وعلامة الروم بها القلانس الطوال، منها الحمر والبيض. ونساء الروم لهن عمائم كبار وأهل هذه المدينة لا يغيرون المنكر، بل كذلك أهل هذا الإقليم كلهم وهم يشترون الجواري الروميات الحسان ويتركونهن للفساد وكل واحدة عليها وظيف لمالكها تؤديه له.
وسمعت هنالك أن الجواري يدخلن الحمام مع الرجال، فمن أراد الفساد فعل ذلك بالحمام من غير منكر عليه. وذكر لي أن القاضي بها له جوارٍ على هذه الصورة. وعند دخولنا لهذه المدينة تقدم إلينا رجال من حوانيتهم حتى سل بعضهم السكاكين وأخذوا بأعنة الخيل ونازعهم آخرون على بعض، ونحن لا نعلم ما يقولون، فخفنا منهم وظننا أنهم الجرميان الذين يقطعون الطرق، وأن تلك مدينتهم، وحسبنا أنهم يريدون نهبنا. ثم بعث الله لنا رجلاً حاجاً يعرف اللسان العربي فسألته عن مرادهم منا فقال: إنهم من الفتيان، وإن الذين سبقوا إلينا أولاً هم أصحاب الفتى أخي سنان والآخرون أصحاب الفتى أخي طومان، وكل طائفة ترغب أن يكون نزولكم عندهم. فعجبنا من كرم نفوسهم. ثم وقع بينهم الصلح على المقارعة، فمن كانت قرعته نزلنا عنده أولاً، فوقعت قرعة أخي سنان وبلغه ذلك، فأتى إلينا في جماعة من أصحابه فسلموا علينا ونزلنا بزاوية له. وأتي بأنواع الطعام، ثم ذهب بنا إلى الحمام ودخل معنا، وتولى خدمتي بنفسه، وتولى أصحابه خدمة أصحابي يخدم الثلاثة والأربعة الواحد منهم. ثم خرجنا من الحمام فأتو بطعام عظيم وحلواء وفاكهة كثيرة. وبعد الفراغ من الأكل قرأ القراء آيات من القرآن العزيز، ثم أخذوا في السماع والرقص. وأعلموا السلطان بخبرنا. فلما كان من الغد بعث في طلبنا بالعشي فتوجنا إليه وإلى ولده كما نذكره، ثم عدنا إلى الزاوية فألفينا الأخي طومان وأصحابه في انتظارنا، فذهبوا بنا إلى زاويتهم، ففعلوا في الطعام والحمام مثل أصحابهم، وزادوا عليه أن صبوا علينا ماء الورد صباً بعد خروجنا من الحمام، ثم مضوا بنا إلى الزاوية، ففعلوا أيضاً من الأحتفال في الأطعمة والحلواء والفاكهة وقراءة القرآن بعد الفراغ من الأكل ثم السماع والرقص كمثل ما فعله أصحابهم أو أحسن. وأقمنا عندهم بالزاوية أياماً.
ذكر سلطان لاذق
وهو السلطان يننج بك " واسمه بياء آخر الحروف مفتوحة ثم نونين أولاهما مفتوحة والثانية مسكنة وجيم "، وهو من كبار سلاطين بلاد الروم. ولما نزلنا بزاوية أخي سنان كما قدمناه، بعث إلينا الواعظ المذكور العالم علاء الدين القسطموني، واصطحب معه خيلاً بعددنا، وذلك في شهر رمضان، فتوجهنا إليه وسلمنا عليه.
ومن عادة ملوك هذه البلاد التواضع لواردين ولين الكلام وقلة العطاء. فصلينا معه المغرب وحضر طعامه فأفطرنا عنده وانصرفنا. وبعث إلينا بدراهم، ثم بعث إلينا ولده مراد بك، وكان ساكناً في بستان خارج المدينة، وذلك في إبان الفاكهة، وبعث أيضاً خيلاً على عددنا، كما فعله أبوه فأتينا بستانه وأقمنا عنده تلك الليلة. وكان له فقيه يترجم بيننا وبينه. ثم انصرفنا غدوة، وأظلنا عيد الفطر بهذه البلدة، فخرجنا إلى المصلى، وخرج السلطان في عساكره، والفتيان الأخية كلهم بالأسلحة. ولأهل كل صناعة الأعلام والبوقات والطبول والأنفار، وبعضهم يفاخر بعضاً ويباهيه في حسن الهيئة وكمال الشكة، ويخرج أهل كل صناعة معهم البقر والغنم وأحمال الخبز، فيذبحون البهائم بالمقابر ويتصدقون بها وبالخبز ?. ويكون خروجهم أولاً إلى المقابر ومنها إلى المصلى.
ولما صلينا صلاة العيد، دخلنا مع السلطان إلى منزله، وحضر الطعام. فجعل للفقهاء والمشايخ والفتيان سماط على حدة، وجعل للفقراء والمساكين سماط على حدة. ولا يرد على بابه في ذلك اليوم فقير ولا غني، وأقمنا بهذه البلدة مدة بسبب مخاوف الطريق. ثم تهيأت رفقة فسافرنا معهم يوماً وبعض ليلة، ووصلنا إلى حصن طواس واسمه " بفتح الطاء وتخفيف الواو وآخره سين مهمل"، وهو حصن كبير. يذكر أن صهيباً صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنه، من أهل هذا الحصن. وكان مبيتنا بخارجه. ووصلنا بالغد إلى بابه، فسألنا أهله من أعلى السور عن مقدمنا فأخبرناهم. وحينئذ خرج أمير الحصن ميناس بك في عسكره ليختبر نواحي الحصن والطريق، خوفاً من إغارة السراق على الماشية. فلما طافوا بجهاته خرجت مواشيههم، وهكذا فعلهم أبداً. ونزلنا من هذا الحصن بربضة في زاوية رجل فقير وبعث إلينا أمير الحصن بضيافة وزاد، وسافرنا منه إلى مغلة " وضبط اسمها بضم الميم واسكان الغين المعجم وفتح اللام "، ونزلنا بزاوية أحد المشايخ بها، وكان من الكرماء والفضلاء، يكثر الدخول علينا بزاويته، ولا يدخل إلا بطعام أو فاكهة أو حلواء. ولقينا بهذه البلدة إبراهيم بك ولد سلطان مدينة ميلاس، وسنذكره، فأكرمنا وكسانا، ثم سافرنا إلى مدينة ميلاس " وضبط اسمها بكسر الميم وياء مد وآخره سين مهمل "، وهي من أحسن بلاد الروم وأضخمها، كثيرة الفواكه والبساتين والمياه. نزلنا منها بزاوية أحد الفتيان الأخية، ففعل ما فعله من قبله من الركاء والضيافة ودخول الحمام وغير ذلك من حميد الأفعال وجميل الأعمال. ولقينا بمدينة ميلاس رجلاً صالحاً معمراً يسمى بأبي الششتري، وذكروا أن عمره يزيد على مائة وخمسين سنة، وله قوة وحركة وعقله ثابت وذهنه جيد. دعا لنا وحصلت لنا بركته.
?ذكر سلطان ميلاس
وهو السلطان المكرم شجاع الدين أرخان بك ابن المنتشا " وضبط اسمه بضم الهمزة وإسكان الراء وخاء معجم وآخره نون "، وهو من خيالي الملوك، حسن الصورة والسيرة، جلساؤه الفقهاء وهم معظمون لديه، وببابه منهم جماعة منهم الفقيه الخوارزمي عارف بالفنون فاضل. وكان السلطان في أيام لقائي له واجداً عليه. بسبب رحلته إلى مدينة أياسلوق ووصوله إلى سلطانها وقبول ما أهداه. فسألني هذا الفقيه أن أتكلم عند الملك في شأنه بما يذهب ما في خاطره، فأثنيت عليه عند السلطان، وذكرت ما علمته من علمه وفضله، ولم أزل به حتى ذهب ما كان يجده فيه. وأحسن إلينا هذا السلطان وأركبنا وزودنا. وسكناه في مدينة برجين، وهي قريبة من ميلاس، بينهما ميلان " وضبط اسمها بفتح الموحدة واسكان الراء وجيم وياء مد وآخره نون "، وهي جديدة على تل هنالك، بها العمارات الحسان والمساجد. وكان قد بنى بها مسجداً جامعاً، لم يتم بناؤه بعد. وبهذه البلدة لقيناه، ونزلنا منها بزاوية الفتى أخي علي. ثم انصرفنا بعد ما أحسن إلينا كما قدمناه إلى مدينة قونيه " وضبط اسمها بضم القاف وواو مد ونون مسكن مكسور ويار آخر الحروف "، مدينة عظيمة حسنة العمارة كثيرة المياه والانهار والبساتين والفواكة، وبها المشمش المسمى بقمر الدين. وقد تقدم ذكره، ويحمل منه أيضاً إلى ديار مصر والشام. وشوارعها متسعة جداً، وأسواقها بديعة الترتيب. وأهل كل صناعة على حدة ويقال: إن هذه المدينة من بناء الإسكندر، وهي من بلاد السلطان بدر الدين بن قرمان، وسنذكره. وقد تغلب عليها صاحب العراق في بعض الأوقات لقربها من بلاده التي بهذا الإقليم. نزلنا منها بزاوية قاضيها، ويعرف بابن قلم شاه وهو من الفتيان، وزاويته من أعظم الزوايا. وله طائفة كبيرة من التلاميذ، ولهم في الفتوة سند يتصل إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. ولباسها عندهم السراويل كما تلبس الصوفية الخرقة. وكان صنيع هذا القاضي في إكرامنا وضيافتنا أعظم صنيع من قبله وأجمل. وبعث ولده عوضاً عنه لدخول الحمام معنا. وبهذه المدينة تربة الشيخ الإمام الصالح القطب جلال الدين المعروف بمولانا، وكان كبير القدر. وبأرض الروم طائفة ينتمون ويعرفون باسمه، فيقال لهم الجلالية، كما تعرف الأحمدية بالعراق، والحيدرية بخراسان، وعلى تربته زاوية عظيمة فيها الطعام للوارد.
?حكاية
يذكر أنه كان في ابتداء أمره فقيهاً مدرساً، يجتمع إليه الطلبة بمدرسته بقونيه، فدخل يوماً إلى المدرسة رجل يبيع الحلواء، وعلى رأسه طبق منها، وهي مقطعة قطعاً، يبيع القطعة منها بفلس. فلما أتى مجلس التدريس قال له الشيخ: هات طبقك. فأخذ الحلواني قطعة منه وأعطاها للشيخ.. فأخذها الشيخ بيده، وأكلها. فخرج الحلواني، ولم يطعم أحداً سوى الشيخ. فخرج الشيخ في اتباعه، وترك التدريس، فأبطأ على الطلبة. طال انتظارهم إياه، فخرجوا في طلبه فلم يعرفوا له مستقراً. ثم إنه عاد إليهم بعد أعوام، وصار لا ينطق إلا بالشعر الفارسي المتعلق الذي لا يفهم. فكان الطلبة يتبعونه ويكتبون ما يصدر عنه من ذلك الشعر، وألفوا منه كتاباً سموه المثنوي. وأهل تلك البلاد يعظمون ذلك الكتاب ويعتبرون كلامه، ويعلمونه ويقرأونه بزواياهم في ليالي الجمعات. وفي هذه المدينة أيضاً قبر الفقيه أحمد، الذي يذكر أنه كان معلم جلال الدين المذكور. ثم سافرنا إلى مدينة اللارندة، وهي " بفتح الراء التي بعد الالف واللام واسكان النون وفتح الدال المهمل "، مدينة حسنة كثيرة المياه والبساتين.
?ذكر سلطان اللارندة
وسلطانها الملك بدر الدين بن قرمان " وبفتح القاف والراء "، وكانت قبله لشقيقه موسى، فنزل عنها للملك الناصر، وعوضه عنها بعوض، وبعث إليها أميراً وعسكراً، ثم تغلب عليها السلطان بدر الدين، وبنى بها دار مملكته، واستقام أمره بها. ولقيت هذا السلطان خارج المدينة، وهو عائد من تصيده، فنزلت له عن دابتي، فنزل هو عن دابته، وسلمت عليه. وأقبل علي، ومن عادة ملوك هذه البلاد أنه إذا نزل لهم الوارد عن دابته نزلوا له، وأعجبهم فعله وزادوا في إكرامه. وإن سلم عليهم راكباً ساءهم ذلك ولم يرضهم، ويكون سبباً لحرمان الوارد. وقد جرى لي ذلك مع بعضهم وسأذكره. وولما سلمت عليه وركب وركبت، سألني عن حالي وعن مقدمي، ودخلت معه المدينة، فأمر بإنزالي أحسن نزل، وكان يبعث الطعام الكثير والفواكهة والحلواء في طيافير الفضة والشمع، وكسا وأركب وأحسن، ولم يطل مقامنا عنده. وانصرفنا إلى مدينة أقصرا " وضبطها بفتح الهمزة وسكون القاف وفتح الصاد المهمل والراء "، وهي من أحسن بلاد الروم وأتقنها. تحف بها العيون الجارية والبساتين من كل ناحية، ويشق المدينة ثلاثة أنهار، ويجري الماء بدورها، وفيها الأشجار ودوالي العنب، وداخلها بساتين كثيرة، وتصنع بها البسط المنسوبة اليها من صوف الغنم لا مثل لها في بلد من البلاد، ومنها تحمل إلى الشام ومصر والعراق والهند والصين وبلاد الأتراك. وهذه المدينة في طاعة ملك العراق. ونزلنا منها بزاوية الشريف حسين النائب بها عن الأمير أرتنا، وأرتنا هو النائب عن ملك العراق، فيما تغلب عليه من بلاد الروم. وهذا الشريف من الفتيان وله طائفة كثيرة وأكرمنا إكراماً متناهياً وفعل أفعال من تقدمه.
ثم رحلنا إلى مدينة نكدة " وضبط اسمها بفتح النون وإسكان الكاف ودال مهمل مفتوح "، وهي من بلاد ملك العراق، مدينة كبيرة كثيرة العمارة، قد تخرب بعضها، ويشقها النهر المعروف بالنهر الأسود، وهو من كبار الأنهار، عليه ثلاث قناطر: إحداها بداخل المدينة واثنتان بخارجها، وعليه النواعير بالداخل والخارج، منها تسقى البساتين، والفواكه كثيرة. ونزلنا منها بزاوية الفتى أخي جاروق، وهو الأمير بها، فأكرمنا على عادة الفتيان، وأقمنا بها ثلاثاً.
وسرنا منها بعد ذلك إلى مدينة قيسارية، وهي من بلاد صاحب العراق، وهي إحدى المدن العظام بهذا الإقليم، بها عسكر أهل العراق وإحدى خواتين الأمير علاء الدين أرتنا المذكور. وهي من أكرم الخواتين وأفضلهن ولها نسبة من ملك العراق، وتدعى أغا " بفتح الهمزة والغين المعجم "، ومعنى أغا الكبير، وكل من بينه وبين السلطان نسبة يدعى بذلك، واسمها طغى خاتون، ودخلنا إليها فقامت وأحسنت السلام والكلام، وأمرت بإحضار الطعام فأكلنا، ولما انصرفنا بعثت إلينا بفرس مسرج ملجم وخلعة ودراهم مع أحد غلمانها واعتذرت. ونزلنا من هذه المدينة بزاوية الفتى الأخي أمير علي وهو أمير كبير من كبار الأخية بهذه البلاد، وله طائفة تتبعه من وجوه المدينة وكبرائها، وزاويته من أحسن الزوايا فرشاً وقناديل وطعاماً كثيراً وإتقاناً. والكبراء من أصحابه وغيرهم يجتمعون كل ليلة عنده، ويفعلون في إكرام الوارد أضعاف ما يفعله سواهم. ومن عوائد هذه البلاد أنه ما كان منها ليس به سلطان، فالأخي هو الحاكم به، وهو يركب الوارد ويكسوه ويحسن إليه على قدره وترتيبه في أمره ونهيه وركوبه ترتيب الملوك.
ثم سافرنا إلى مدينة سيواس " وضبط اسمها بكسر السين المهمل وياء مد وآخره سين مهمل " وهي من بلاد العراق، وأعظم ما له بهذا الإقليم من البلاد، وبها منزل أمرائه وعماله. مدينة حسنة العمارة واسعة الشوارع أسواقها غاصة بالناس، وبها دار مثل المدرسة تسمى دار السيادة، لا ينزلها إلا الشرفاء، ونقيبهم ساكن بها. وتجري لهم فيها مدة مقامهم الفرش والطعام والشمع وغيره فيزودون إذا انصرفوا.
ولما قدمنا هذه المدينة خرج إلى لقائنا أصحاب الفتى بجقجي، وبحق بالتركية السكين، وهذا منسوب إليه، والجيمان منه معقودان بينهما قاف، وباؤه مكسورة وكانوا جماعة، منهم الركبان والمشاة. ثم لقينا بعدهم أصحاب الفتى أخي جلبي، وهو من كبار الأخية. وطبقته أعلى من طبقة أخي بجقجي، فطلبوا أن ينزل عندهم، فلم يمكن لنا ذلك لسبق الأولين. ودخلنا المدينة معهم جميعاً، وهم يتفاخرون. والذي سبقوا إلينا قد فرحوا أشد الفرح بنزولنا عندهم. ثم كان من صنيعهم في الطعام والحمام والمبيت مثل صنيع من تقدم. وأقمنا عندهم ثلاثة في أحسن ضيافة. ثم أتانا القاضي وجماعة من الطلبة، ومعهم خيل الأمير علاء الدين أرتنا نائب ملك العراق ببلاد الروم، فركبنا معه، واستقبلنا الأمير إلى دهليز داره، فسلم علينا ورحب، وكان فصيح اللسان بالعربية. وسألني عن العراقين وأصبهان وشيراز وكرمان، وعن السلطان أتابك، وبلاد الشام ومصر، وسلاطين التركمان. وكان مراده أن أشكر الكريم منهم وأذم البخيل، فلم أفعل ذلك، بل شكرت الجميع. فسر بذلك مني وشكرني عليه. ثم أحضر الطعام وأكلنا، وقال: تكونون في ضيافتي. فقال له الفتى أخي جلبي: إنهم لم ينزلوا بعد بزاويتي، فليكونوا عندي، وضيافتك تصلهم. فقال: أفعل. فانتقلنا إلى زاويته، وأقمنا بها ستاً في ضيافته وفي ضيافة الأمير. ثم بعث الأمير بفرس وكسوة ودراهم، وكتب لنوابه بالبلاد أن يضيفونا ويكرمونا ويزودونا. وسافرنا إلى مدينة أماصية " وضبط اسمها بفتح الهمزة والميم والف وصاد مهمل مكسور وياء آخر الحروف مفتوحة "، مدينة كبيرة حسنة ذات أنهار وبساتين وأشجار وفواكه، وعلى أنهارها النواعير تسقي جناتها ودورها. وهي فسيحة الشوارع والأسواق. وملكها صاحب العراق. ويقرب منها بلدة سونسى " وضبط اسمها بضم السين المهمل وواو مد ونون مضموم وسين مهمل مفتوح "، وهي لصاحب العراق أيضاً. وبها سكنى أولاد ولي الله تعالى أبي العباس أحمد الرفاعي. منهم الشيخ عز الدين وهو الآن شيخ الرواق وصاحب سجادة الرفاعي، وإخوته الشيخ علي والشيخ إبراهيم والشيخ يحيى أولاد الشيخ أحمد كوجك ومعناه الصغير ابن تاج الدين الرفاعي. ونزلنا بزاويتهم ورأينا لهم الفضل على من سواهم.
ثم سافرنا إلى مدينة كمش " وضبط اسمها بضم الكاف وكسر الميم وشين معجم "، وهي من بلاد ملك العراق، مدينة كبيرة عامرة يأتيها التجار من العراق والشام، وبها معادن الفضة. وعلى مسيرة يومين منها جبال شامخة وعرة لم أصل إليها ونزلنا منها بزاوية الأخي مجد الدين، وأقمنا بها ثلاثاً في ضيافته وفعل أفعال من قبله. وجاء إلينا نائب الأمير أرتنا، وبعث بضيافة وزاد. وانصرفنا من تلك البلاد، فوصلنا إلى أرزنجان " وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان الراء وفتح الزاي وسكون النون وجيم والف ونون "، وهي من بلاد صاحب العراق. مدينة كبيرة عامرة، وأكثر سكانها الأرمن. والمسلمون يتكلمون بها التركية. ولها أسواق حسنة الترتيب. ويصنع بها ثياب حسان تنسب اليها. وفيها معادن النحاس، ويصنعون منه الأواني والبياسيس التي ذكرناها، وهي شبه المنار عندنا. ونزلنا منها بزاوية الفتى أخي نظام الدين، وهي من أحسن الزوايا، وهو أيضاً من خيار الفتيان وكبارهم، أضافنا أحسن ضيافة. وانصرفنا إلى مدينة أرز الروم، وهي من بلاد ملك العراق، كبيرة الساحة، خرب أكثرها بسبب فتنة وقعت بين طائفتين من التركمان بها. ويشقها ثلاثة أنهار. وفي أكثر دورها بساتين فيها الأشجار والدوالي. ونزلنا منها بزاوية الفتى أخي طومان، وهو كبير السن، يقال: إنه أناف على مائة وثلاثين سنة. ورأيته ينصرف على قدميه متوكئاً على عصا، ثابت الذهن، مواظباً للصلاة في أوقاتها، لم ينكر من نفسه شيئاً، إلا أنه لا يستطيع الصوم. وخدمنا بنفسه في الطعام وخدمنا أولاده في الحمام، وأردنا الانصراف عنه ثاني يوم نزولنا، فشق عليه ذلك، وأبى منه وقال: إن فعلتم نقصتم حرمتي، وإن أقل الضيافة ثلاث. فأقمنا لديه ثلاثاً.
ثم انصرفنا إلى مدينة بركي " وضبط اسمها بباء موحدة مكسورة وكاف معقود مكسور بينهما راء مسكن "، ووصلنا إليها بعد العصر، فلقينا رجلاً من أهلها، فسألناه عن زاوية الأخي بها فقال: أنا أدلكم عليها، فاتبعناه فذهب بنا إلى منزله نفسه في بستان له، فأنزلنا بأعلى سطح بيته، والأشجار مظللة، وذلك أوان الحر الشديد، وأتى إلينا بأنواع الفاكهة، وأحسن في ضيافته. وعلف دوابنا، وبتنا عنده تلك الليلة. وكنا قد تعرفنا أن بهذه المدينة مدرساً فاضلاً يسمى بمحيي الدين، فأتى بنا ذلك الرجل الذي بتنا عنده، وكان من الطلبة إلى المدرسة وإذا بالمدرس قد أقبل راكباً على بغلة فارهة، ومماليكه وخدامه عن جانبيه، والطلبة بين يديه، وعليه ثياب مفرجة حسان مطرزة بالذهب. فسلمنا عليه، فرحب بنا وأحسن السلام والكلام، وأمسك بيدي وأجلسني إلى جانبه. ثم جاء القاضي عز الدين فرشتي، ومعنى فرشتي الملك. لقب بذلك لدينه وعفافه وفضله. فقعد عن يمين المدرس، وأخذ في تدريس العلوم الأصلية والفرعية. ثم لما فرغ من ذلك أتى دويرة بالمدرسة فأمر بفرشها، وأنزلني فيها. وبعث ضيافة حافلة، ثم وجه إلينا بعد المغرب، فمضيت إليه، فوجدته في مجلس ببستان له، وهنالك صهريج ماء ينحدر اليه الماء من خصة رخام أبيض يدور بها القاشاني، وبين يديه جملة من الطلبة، ومماليكه وخدامه وقوف من جانبيه، وهو قاعد على مرتبة عليها أقطاع منقوشة حسنة، فخلته لما شاهدته ملكاً من الملوك. فقام إلي واستقبلني وأخذ بيدي وأجلسني إلى جانبه على مرتبته، وأتى بالطعام فأكلنا وانصرفنا إلى المدرسة. وذكر لي بعض الطلبة أن جميع من حضر تلك الليلة من الطلبة عند المدرس، فعادتهم الحضور لطعامه كل ليلة، وكتب هذا المدرس إلى السلطان بخبرنا وأثنى في كتابه، والسلطان في جبل هنالك يصيف فيه لأجل شدة الحر، وذلك الجبل بارد. وعادته أن يصيف فيه.
ذكر سلطان بركي
وهو السلطان محمد بن آيدين من خيار السلاطين وكرمائهم وفضلائهم، ولما بعث إليه المدرس يعلمه بخبري، وجه نائبه إلي لآتيه، فأشار علي المدرس أن أقيم حتى يبعث إلي ثانية، وكان المدرس إذ ذاك قد خرجت برجله قرحة، لا يستطيع الركوب بسببها، وانقطع عن المدرسة، ثم إن السلطان بعث في طلبي ثانية، فشق ذلك على المدرس فقال: أنا لا أستطيع الركوب، ومن غرضي التوجه معك، لأقرر لدى السلطان ما يجب لك. ثم إنه تحامل ولف على رجله خرقاً، وركب ولم يضع رجله في الركاب. وركبت أنا وأصحابي وصعدنا إلى الجبل، في طريق قد نحتت وسويت، فوصلنا إلى موضع السلطان عند الزوال، فنزلنا على نهر ماء تحت ظلال شجر الجوز، وصادفنا السلطان في قلق وشغل بال، بسبب فرار ابنه الأصغر سليمان عنه إلى صهره السلطان أرخان بك، فلما بلغه خبر وصولنا بعث إلينا ولديه: خضر بك وعمر بك، فسلما على الفقيه، وأمرهما بالسلام علي ففعلا ذلك، وسألاني عن حالي ومقدمي وانصرفا. وبعث إلي ببيت يسمى عندهم الخرقة " خركاه"، وهو عصي من الخشب تجمع شبه القبة، وتجعل عليها اللبود، ويفتح أعلاه لدخول الضوء والريح، مثل البادهنج. ويسد متى احتيج إلى شده. وأتوا بالفرش ففرشوه، وقعد الفقيه، وقعدت معه أصحابه وأصحابي خارج البيت تحت ظلال شجر الجوز، وذلك الموضع شديدة البرد، ومات لي تلك الليلة فرس من شدة البرد. ولما كان من الغد ركب المدرس إلى السلطان وتكلم في شأني بما اقتضته فضائله، ثم عاد إلي وأعلمني بذلك. وبعد ساعة وجه السلطان في طلبنا معاً، فجئنا إلى منزله ووجدناه قائماً، فسلمنا عليه، وقعد الفقيه عن يمينه وأنا مما يلي الفقيه. فسألني عن حالي ومقدمي، وسألني عن الحجاز ومصر والشام واليمن والعراقين وبلاد الأعاجم. ثم حضر الطعام فأكلنا وانصرفنا، وبعث الأرز والدقيق والسمن في كروش الأغنام، وكذلك فعل الترك. وأقمنا على تلك الحال أياماً، يبعث إلينا كل يوم، فنحضر طعامه، وأتى يوماً إلينا بعد الظهر، وقعد الفقيه في صدر المجلس، وأنا عن يساره، وقعد السلطان عن يمين الفقيه، وذلك لعزة الفقهاء عند الترك، وطلب مني أن أكتب له أحاديث من حديث رسول صلى الله عليه وسلم فكتبتها له، وعرضها الفقيه عليه في تلك الساعة فأمره أن يكتب له شرحها باللسان التركي، ثم قام فخرج، ورأى الخدام يطبخون لنا الطعام تحت ظلال الجوز بغير إدام ولا خضر. فأمر بعقاب صاحب خزانته، وبعث بالأبزار والسمن. وطالت إقامتنا بذلك الجبل، فأدركني الملل وأردت الإنصراف. وكان الفقيه أيضاً قد مل من المقام هنالك، فبعث إلى السلطان يخبره أني أريد السفر. فلما كان من الغد بعث السلطان نائبه، فتكلم مع المدرس بالتركية، ولم أكن إذ ذاك أفهمها، فأجابه عن كلامه وانصرف. فقال لي المدرس: أتدري ماذا قال:? قلت: لا أعرف ما قال. قال: إن السلطان بعث إلي ليسألني ماذا يعطيك. فقلت له: عنده الذهب والفضة والخيل والعبيد فليعطه ما أحب من ذلك. فذهب إلى السلطان ثم عاد إلينا. فقال: إن السلطان يأمر أن تقيما هنا اليوم، وتنزلا معه غداً إلى داره بالمدينة. ولما كان من الغد بعث فرساً جيداً من مراكبه، ونزل ونحن معه إلى المدينة. فخرج الناس لاستقباله، وفيهم القاضي المذكور آنفاً وسواه، ودخل السلطان ونحن معه، فلما نزل بباب داره ذهبت مع المدرس إلى ناحية المدرسة، فدعا بنا وأمرنا بالدخول معه إلى داره. ولما وصلنا إلى دهليز الدار وجدنا من خدامه نحو عشرين، صورهم فائقة الحسن وعليهم ثياب الحرير وشعورهم مفروقة وألوانهم ساطعة البياض مشربة بحمرة. فقلت للفقيه: ما هذه الصور الحسان ? قال: هؤلاء فتيان روميون. وصعدنا مع السلطان درجاً كثيرة إلى أن انتهينا إلى مجلس حسن في وسطه صهريج ماء، وعلى كل ركن من أركانه صورة سبع نحاس يمج ماء من فيه، وتدور بهذا المجلس مصاطب متصلة مفروشة، وفوق إحداها مرتبة السلطان. فلما انتهينا إليها نحى السلطان مرتبته بيده، وقعد معنا على الأقطاع، وقعد الفقيه عن يمينه، والقاضي مما يلي الفقيه، وأنا مما يلي القاضي، وقعد القراء أسفل المصطبة، والقراء لا يفارقونه حيث كان من مجالسه.
ثم جاءوا بصحاف من الذهب والفضة مملوءة بالجلاب المحلول، قد عصر فيه ماء الليمون، وجعل فيه كعكات صغار مقسومة، وفيها ملاعق ذهب وفضة، وجاءوا معها بصحاف صيني فيها مثل ذلك، وفيها ملاعق خشب، فمن تورع استعمل صحاف الصيني وملاعق الخشب. وتكلمت بشكر السلطان وأثنيت على الفقيه، وبالغت في ذلك فأعجب ذلك السلطان وسره.
حكاية
وفي أثناء قعودنا مع السلطان أتى شيخ على رأسه عمامة لها ذؤابة فسلم عليه، وقام له القاضي والفقيه، وقعد أمام السلطان فوق المصطبة، والقراء أسفل منه. فقلت للفقيه: من هذا الشيخ ? فضحك وسكت. ثم أعدت السؤال، فقال لي: هذا يهودي طبيب، وكلنا محتاج إليه. فلأجل هذا فعلنا ما رأيت من القيام له. فأخذني ما حدث وأبديت الامتعاض. فقلت لليهودي: يا ملعون ابن ملعون، كيف تجلس فوق قراء القرآن، وأنت يهودي ? وشتمته ورفعت صوتي، فعجب السلطان وسأل عن معنى كلامي فأخبره الفقيه به. وغضب اليهودي فخرج عن المجلس في أسوأ حال. ولما انصرفنا قال لي الفقيه: أحسنت بارك الله فيك. إن أحداً سواك لا يتجاسر على مخاطبته بذلك، ولقد عرفته بنفسه.
تابع